تأملات في السعادة والإيجابية
الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم
13. صناعة الحظ
قرأت مقالة في إحدى الصحف الأجنبية من دبي، تحدث فيها الكاتب عن "ابتسام الحظ" مرة أخرى لدبي، وعودة الزخم الاقتصادي والاستثماري إلى سابق عهده.
التقيت قبل فترة إحدى بناتي المواطنات في أحد المراكز التجارية، فسألتها عن عملها ووظيفتها. فقالت: "ما لي حظ في الوظائف المميزة، أعمل في وظيفة بسيطة في كذا وكذا"، وسمت وظيفتها.
تلقيت رسالة على بريدي من أحد الشباب يريد مساعدة في ديون تراكمت عليه، فوجهنا بعمل اللازم. ولكن لاحظت في رسالته قوله إنه "جرب نفسه في مشروع تجاري ولكن لم يحالفه الحظ".
أسمع بشكل يومي تقريباً، بشكل مباشر أو غير مباشر عن "الحظ"، وأرى أيضاً أناساً يتعلقون به ويغرمون بالمقامرة من أجله، وبعضهم يقضي سنوات من عمره انتظاراً لابتسامة مشفقة من هذا الشيء الذي يسمونه حظاً.
كثيرون ينتظرون تغير الظروف، وتبدل الأحوال، وتحسن الأجواء، حتى يحققوا النجاح في حياتهم، ينتظرون الحظ ليزورهم، ينتظرون الفرصة المناسبة، والوقت المناسب، والشخص المناسب الذي سيحقق لهم أحلامهم وطموحاتهم ويغير لهم حياتهم!
الإنسان الإيجابي نظرته مختلفة للحظ، هو لا ينتظر الحظ بل يصنعه، لا ينتظر ابتسامة الحظ له، بل يبتسم هو للحياة ويسعى منطلقاً خلف أحلامه وطموحاته، يعرف الإنسان الإيجابي أنه سيلاقي الحظ والفرص والنجاح عندما ينطلق بأقصى طاقته خلف أحلامه وطموحاته، عندما يبدأ يومه مبكراً، عندما يضع خطة لنفسه ويبدأ العمل عليها دون تسويف أو تأجيل، يعرف الإنسان الإيجابي أن الحظ لا يصنع الرجال بل الرجال هم الذين يصنعون الحظ.
يقولون إن دبي ابتسم لها الحظ، وتهيأت لها الظروف، وتغيرت الأحوال لمصلحتها، وأنا أقول، عندما يريدون التقليل من مجهوداتك فإنهم ينسبون نجاحك للحظ.
دولة الإمارات ودبي قصة مليئة بالعمل والجد والاجتهاد والكفاح ومقاومة أقسى الظروف، بيوتنا كانت بلا ماء أو كهرباء قبل عقود قليلة، وشوارعنا كانت عبارة عن طرق ترابية تغطيها كثبان تحركها الرياح، ومدارسنا عبارة عن كتاتيب تحت الشجر والعريش، وميناؤنا كان مرسى صغيراً في خور مياهه ضحلة، وحتى مطارنا الصغير كان عبارة عن مدرج ترابي حتى بداية الستينات. هل بنت دبي والإمارات نفسها صدفة؟ هل حدثت معجزة وتغيرت الأمور فجأة، أم كانت هنالك تضحيات ومجهودات وأعمار أفنيت، ورجال بذلوا أنفسهم من أجل هذا البناء؟
كي أجيب عن هذا التساؤل، دعوني أحكي لكم يوماً في حياة مؤسس دبي الحديثة الشيخ راشد، رحمه الله.
كان يبدأ يومه مع خيوط الفجر الأولى، يتوضأ ثم يصلي ويذكر ربه، وينطلق في شوارع المدينة وأزقتها حتى قبل أن يتناول طعام إفطاره، عندما كان الناس نياماً كان هو مستيقظاً يشاهد العمال مع خيوط الصبح الأولى ينطلقون نحو أعمالهم، يشاهد مدينة دبي، كيف تستيقظ وكيف تبدأ يومها، وكيف تبدأ الحركة في أرجائها.
كانت ساعات الصباح الأولى ساعات فكر وتخطيط وصفاء. وكثيراً ما شاهده الناس يمشي بينهم ويسألهم عن أحوالهم وأعمالهم حتى قبل أن يستيقظ كبار الموظفين والمسؤولين والتجار، ثم كانت له جلسة صباحية في أول النهار على مقاعد خشبية أمام مجلس زعبيل ليناقش ما شاهده في جولته بعد الفجر مع المعنيين ومدراء المشاريع، لم يكن ينتظر التقارير، بل كان يطلع عليها مباشرة من واقع الناس.
كان، رحمه الله، يرجع لبيته في الثامنة لتناول فطوره الذي كان بسيطاً كشخصية ذلك القائد العظيم كان تمراً وحليباً وما تيسر من أصناف أخرى، ثم يتوجه إلى مكتبه ويقضي نهاره في التخطيط للمشاريع الجديدة واعتماد الموافقات القائمة، واستقبال الوفود من التجار أو المواطنين، أو وفود الشركات الأجنبية أو غيرها، حتى إذا جاء الظهر أمر بالغداء ثم أخذ قيلولة لا تتعدى الساعة.
قبل أن ينطلق عصراً لتفقد المشاريع ومتابعة العمل مع المقاولين بنفسه، حتى إن كثيراً من الشركات كانت تلقبه بالمهندس أو "الفورمن" -كبير العمال- لكثرة تواجده معهم ومتابعته اليومية لحجم الإنجاز في جميع المشاريع، كما كانت له، رحمه الله، جلسة أخرى في الفترة المسائيية.
يقولون إن دبي ابتسم لها الحظ. وأنا أقول: عندما يريدون التقليل من نجاحك، فإنهم ينسبنوها للحظ.،
دبي لم تبن بالحظ أو بالمصادفة، بل بنيت بسهر الليل وبعمل النهار، بنيت بجهود رجال لم ينتظروا الظروف أن تتحسن، بل طوّعوا الظروف لخدمة طموحاتهم، لم ينتظروا الأحوال أن تتبدل، بل آمنوا بأنهم يستطيعون تبديل أحوالهم للأفضل.
لو انتظرت دبي ابتسام الحظ لها، كما تقول بعض الصحف والمقالات الإعلامية، لما وصلنا إلى عُشر ما نحن فيه.
انتقالنا من مطار صغير بمدرج ترابي عام 1960 ليكون مطارنا الأكثر إشغالاً بالمسافرين الدوليين على مستوى العالم عام 2014 ليس ضربة حظ. انتقالنا من مرسى صغير على خور دبي لتكون موانئنا بين الأكبر عالمياً، ولتدير شركتنا الحكومية للموانئ أكثر من 66 ميناء حول العالم ليس أيضاً ضربة حظ.
انتقالنا من شوارع عبارة عن طرق ترابية كونتها السيارات في الكثبان الرملية لتكون الدولة الأكثر جودة في بنيتها التحتية على مستوى العالم بشهادة أكبر.
نحن لم نوجد مصادفة، ولم تخلقنا الظروف المحيطة بنا، نحن صنعنا ظروفنا وصنعنا نجاحنا، ولا أقولها تفاخراً أو رداً على مقالات إعلامية، بل أقولها لتستمر أجيالنا بنفس الروح وبنفس الإصرار وبنفس العزيمة في هذا الطريق، أكبر حظاً حصلنا عليه هي الروح القتالية وروح التحدي التي تسري فيناء أقول للشباب وللأجيال، إذا كنا إيجابيين فلا بد أن نغير نظرتنا لمفهوم الحظ.
الإنجازات والنجاحات ليست ضربة حظ، بل جد واجتهاد واستعداد وإيمان. وأقول لشبابنا السماء لا تمطر ذهباً والأرض لا تخفي لكم كنوزاً والفرص لا تنتظر من يستيقظون متأخراً، أقول لشبابنا حظكم الحقيقي ليس ما تحصلون عليه من مكافآت بل ما أعطاكم الله من مواهب وقدرات وطاقات وإمكانات. أقول للشباب وللأجيال: إذا كنا إيجابيين فلا بد أن نغير نظرتنا لمفهوم الحظ.
(الإنجازات والنجاحات ليست ضربة حظ، بل جد واجتهاد واستعداد وإيمان).
(أكبر حظاً حصلنا عليه هي الروح القتالية وروح التحدي التي تسري فينا).
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقكم يعكس شخصيتكم ، دعونا نتمتع باللباقة في الكلام.