القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار عاجلة

12. إيجابية الأزمات - تأملات في السعادة والإيجابية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

تأملات في السعادة والإيجابية

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم





12. إيجابية الأزمات


كل إنسان معرض لأزمات وتحديات يمكن أن يواجهها في حياته، وكل مؤسسة أو مجتمع أو دولة أو شعب أيضاً عرضة للأزمات. هذه سنة كونية من خالق الكون لأن الأزمات تعلمنا كبشر، وتجبرنا على التواضع، وتقوينا وتظهر أفضل طاقاتنا ونبرز معادن أفضل الرجال لدينا وحتى صفات أسوأ الناس تظهر خلال الأزمات.


إن نظرة الإنسان الإيجابي للأزمات التي يمر بها تكون مختلفة عن نظرة الإنسان السلبي، وبالتالي تعامله معها وتفاعله مع معطياتها يختلف تماماً، ولهذا من المهم جداً التحلي بالإيجابية عند التعرض للأزمات، لأن ذلك يمكن أن يغير مسار حياتنا أو إذا كنت قائداً، مسار مؤسستك، وحتى شعبك.


هناك قناعة داخلية راسخة لدى الإنسان الإيجابي بأنه في كل أزمة فرصة، ومع كل محنة منحة، وكل مصيبة لها فوائد، الإنسان الإيجابي لديه إيمان كامل بأن كل أزمة تبدأ كبيرة وتنتهي صغيرة، وبأن أزمات اليوم هي قصص الغد، وبأن الأزمة هي فرصة للإبداع ولاختبار الطاقات والقدرات، والتطوير للإمكانيات والتفكير في مجالات جديدة وبطرق أيضاً مختلفة.



في أواخر عشرينات القرن الماضي، بدأت في دبي مرحلة عصيبة جداً، كانوا يسمونها سنوات القحط، استمرت عقدين كاملين إن لم يكن أكثر. كان اقتصاد دبي قبل ذلك يقوم بشكل أساسي على تجارة اللؤلؤ، وهي تجارة مكلفة وخطيرة ومحفوفة بالكثير من التحديات، وأيضاً الكثير من قصص المعاناة وفقد الأحباب والأقرباء، وكان البحر على قسوته هو المصدر الأساسي للمعيشة والركن الرئيسي الذي يقوم عليه اقتصاد دبي البسيط في ذلك الوقت حيث كان البحر يجود بأفضل أنواع اللؤلؤ الذي لا يدانيه في جودته وأصالته وقيمته أي لؤلؤ آخر، وعاش الناس وعاشت دبي وفق هذه المعادلة الاقتصادية مع البحر، ولكن كانت دبي على موعد مع تحدٍ جديد، تحد قلب كل شيء رأساً على عقب، بل يمكن أن نسميها سنوات التحديات أو كما يصفها البعض سنوات القحط.



اكتشف اليابانيون تكنولوجيا مكنتهم من تصنيع اللؤلؤ بتكلفة قليلة، حيث تلاشت شيئاً فشين الحاجة للؤلؤ الطبيعي، وانتشر اللؤلؤ الصناعي الياباني في أسواق الخليج. ووجد الناس أنفسهم بلا عمل، وفقد الكثير منهم مصدر الرزق وصارعوا الفقر والفاقة عندما انخفض الطلب على اللؤلؤ الطبيعي.  ولكن الأزمة لم تتوقف عند ذلك الحد. انهارت بعد ذلك بقليل بورصة نيويورك للأوراق المالية، ووصل الكساد العالمي إلى دبي، وتباطأت حركة التجارة والملاحة، وتلقى اقتصاد دبي ضربة قوية، وتدهورت الأوضاع الصحية وانتشر وباء الجدري.


                وكان أكثر من تضرر في تلك الأيام المواطنون الفنيون المتخصصون في الغوص وصناعة سفن اللؤلؤ والتجارة به، فتعمقت معاناتهم وانتشرت البطالة في أوساطهم، ولم يعد للأمل مكان في قلوبهم.



في تلك السنوات بدأ نجم الشيخ راشد، رحمه الله بالبزوغ وأظهرت تلك الأزمة أفضل ما عند ذلك القائد الشاب الذي لم يبلغ بعد العشرين من عمره من طاقات وإمكانات، وذكاء غير اعتيادي وإيجابية كبيرة في فكره وشخصيته. أدرك ذلك الشاب بأن دبي مقبلة على فرص هائلة إذا استطاعت أن تحول نفسها وتغير مسيرتها لتكون مركزاً تجارياً حقيقياً للمنطقة وخاصة مع دعوة جدي، رحمه الله، تجار المنطقة للاستقرار في دبي بعد أن دفعتهم الضغوط والقيود الاقتصادية المفروضة عليهم للبحث عن مركز تجاري جديد.


عرف الشيخ راشد أن هناك فرصة حقيقية لدبي في التجارة فوجه، رحمه الله، المواطنين العاملين باللؤلؤ وصناعة السفن للاتجاه نحو التجارة والعمل على الخطوط الملاحية بين الخليج وأفريقيا والهند. فتدفقت رؤوس الأموال والخبرات التجارية، وتحرك سوق العمل وبدأت مرحلة جديدة في قرية دبي ما زلنا نقطف ثمارها حتى اليوم عبر موانئ هي بين الأفضل عالمياً وحركة تجارية للاستيراد والتصدير هي بين الأنشطة على خطوط الملاحة الدولية وخبرات متراكمة مكنتنا اليوم من إدارة 66 ميناء حول العالم.



وهكذا القائد الإيجابي لا ينظر للأزمة على أنها نهاية العالم بل بداية عالم جديد من الإبداع والإنجاز والآفاق الجديدة.



                القائد الإيجابي لا ينتظر الفرص بل يسعى لها، ولا يؤمن بالحظ بل يصنعه، ولا يعتقد أن النجاحات توهب بل هو من يصنعها.


قبل فترة، أعلنت الكثير من وسائل الإعلام عن تصدّر مطار دبي الدولي كل مطارات العالم في حجم حركة المسافرين الدولية، وتفوقه على مطار هيثرو في لندن في السمعة الدولية الكبيرة والتاريخ العريق، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن ولادة مطار دبي كانت بعد معركة من التحديات والإصرار والمثابرة.


في ذلك الوقت أدرك الشيخ راشد أن موقع دبي التجاري العالمي لن يكتمل إلا إن استكمل حلقة التجارة البحرية مع حركة طيران قوية، فبدأ يفكر في إنشاء أول مطار دولي لدبي بعد أن كانت الطائرات تنزل في مياه خور دبي لسنوات طويلة منذ العام 1936 وحتى العام 1947، حيث منعت المنظمة الدولية للطيران المدني استخدام المهابط المالية نظراً لخطورتها على السلامة، بدأ الشيخ راشد عام 1955 المفاوضات مع الحكومة البريطانية وشركات الطيران لإنشاء مطار في دبي ولكنه لم يلق منهم سوى المماطلة والتسويف لمدة عامين كاملين. لم يفقد الشيخ راشد الأمل، واستمرت النقاشات والمفاوضات إلى أن حل عام 1958، فعقد الشيخ راشد العزم على خوض المعركة النهائية، وضغط على المعتمد البريطاني مهدداً بأنه إن لم تكن الشركات البريطانية قادرة على بناء مطار دبي، فهناك جهات أخرى قادرة على ذلك، بدا أن البريطانيين استجابوا، وقاموا بالمسوحات وتم اختيار موقع المطار في ديرة وتنفيذ 5 عمليات هبوط تجريبية.


وعلى الرغم من التردد الذي استشعره الشيخ راشد لدى البريطانيين إلا أنه رصد نصف ميزانية دبي في العام 1958-1959 لمشروع المطار إلى جانب مشروع تطوير الخور، وهما المشروعان اللذان يعتبران أساس حركة التنمية في دبي.


كان عازماً على البدء في المشروع في ذلك العام مهما كانت الظروف، صدق حدس الشيخ راشد، واستمرت العرقلة البريطانية، وما إن أيقن الشيخ راشد أن المفاوضات والتأجيلات قد وصلت إلى طريق مسدود، حتى قرر تجاوز المعتمد البريطاني، وسافرنا إلى بريطانيا للتفاوض مع الحكومة مباشرة، ولم نعد حتى حصل والدي على مبتغاه، وبمجرد عودتنا، خاطبتنا وزارة الخارجية البريطانية مباشرة لإبلاغنا رسمياً بعدم ممانعتها لإقامة مطار في دبي.


وهكذا، بدأ العمل على المطار في 10 سبتمبر، 1959 وكان الشيخ راشد يشرف بنفسه على أدق تفاصيل سير العمل، ويتخذ القرارات اللازمة لتسريع إنجاز العمل، ومراقبة التكاليف وضبطها، وفي مايو 1960 اكتمل العمل على المشروع. وبدأت التجارب الأولية التي شارك فيها بنفسه، إلى أن تم افتتاح المطار في سبتمبر 1960. نعم، سنة واحدة بالضبط هي كل ما كان يحتاجه الشيخ راشد، رحمه الله، لإنشاء أول مطار دولي في دبي.


كل منا لديه خيار أمام التحديات والأزمات إما أن يغليه الغضب واليأس ويستسلم للسلبية والانهزام، وإما أن يتحلى بالإيمان والثقة، ويتسلح بالمثابرة والحنكة، وعينه دوماً على مبتغاه.



حتى بعد تحقيق هدفه، لم يهدأ فكر الشيخ راشد، فقد كان مشغولاً بإنشاء مدرج معبد من الإسفلت، بدأ العمل عليه عام 1963. بجهد كبير، ومتابعة يومية من الشيخ راشد، تم إنجاز المدرج عام 1965، ومع افتتاح المدرج ونزول أول طائرة نفاثة من طيران الشرق الأوسط والخطوط الجوية الكويتية، استمر الشيخ راشد بالإمكانات المتواضعة المتحصلة من الحركة الجوية البسيطة في بناء أحد أحلامه، حيث بدأ العمل فوراً على إنجاز مبنى المغادرين افتتحه عام 1966.



                ثم أمر، رحمه الله، بعد الافتتاح بإعداد مشروع المطار عالمي يتناسب مع متطلبات الشركات الدولية لأن الشيخ راشد رأى أن مستقبل الطيران يتسارع، والتأجيل ليس في مصلحة دبي. وبدأ العمل عام 1969 ليتم افتتاح المطار الجديد في الطوابق الثلاثة عام 1971، ثم توالت التوسعات ولم يتوقف الشيخ راشد حتى وضع البنية التحتية اللازمة لجعل دبي مركزاً جديداً لحركة الطيران العالمية.


القائد الإيجابي لا يستسلم لظروفه، بل يستخرج منها أفضل ما يمكن لبناء مستقبل جديد لأبناء شعبه، القائد الإيجابي ينظر بطريقة إيجابية وإبداعية وبناءة لكل أزمة، لأن الأزمات هي قدر الإنسان والناجح من تعامل مع قدره.



وبالمناسبة فإن المنظمة الدولية للطيران الدولي التي تسببت في العام 1947 بإيقاف حركة الطيران المائي في دبي نظراً لحظرها المهابط المالية بسبب إجراءات واحتياطات السلامة للركاب هي التي احتفلنا معها عام 2015 بحصولنا على التقدير الأعلى عالمياً وتاريخياً في معايير سلامة الطيران في مطاراتنا لتكون منظومة الطيران لدينا الأكثر أمناً وسلامة في تاريخ الطيران اَلمدني اَلعالمي.



الإيجابية تجعل القائد ومتخذ القرار يواجه الأزمات بثبات ويقين وإيمان، وأيضاً بتفاؤل وإبداع. الإيجابية تجعل القائد يستخدم الأزمة لتطوير نفسه وتطوير قدرات فريقه والإبحار في مجالات جديدة واستكشاف فرص فريدة. طبق ذلك حتى على المستوى الشخصي وستجد نتائج مختلفة، وإنجاز أكبر وحياة أفضل بإذن الله.

(القائد الإيجابي لا ينظر للأزمة على أنها نهاية العالم بل بداية عالم جديد من الإبداع والإنجاز).

(في كل أزمة فرصة، ومع كل محنة منحة، وأزمات اليوم
هي قصص الغد).

(الأزمات هي قدر الإنسان. والناجح من تعامل مع قدره بإيجابية).

(الإيجابية تجعل القائد يستخدم الأزمة لتطوير نفسه وتطوير قدرات فريقه والإبحار في مجالات جديدة واستكشاف فرص فريدة).

(القائد الإيجابي لا يستسلم لظروفه بل يستخرج منها أفضل ما يمكن لبناء مستقبل جديد لأبناء شعبه).

تعليقات