لماذا يدرس المستشرقون اللغة العامية ؟
لماذا يدرس المستشرقون اللغة العامية
للأستاذ المستشرق أدمون صوسه
تعريب كاظم الداغستاني
لعل أول ما يبدأ به الأوربي الذي يؤم الشرق ليعرف البلاد ويدرس حضارتها ولغتها هو تخصيصه قسماً من وقته لتعلم اللغة العامية، وهذا كثيراً ما يدعو لتعجب أصدقائه الشرقيين، وعلى الأخص المتعلمين منهم، لذلك فطالما سمعنا هؤلاء الأصدقاء يقولون لنا: لماذا يضيعون كل هذا الوقت في دراسة لغة عامية تتألف أكثر جملها من كلمات غير صحيحة؟ إن الأولى بكم أن تحصروا جهودكم في تعلم اللغة الفصحى التي تحتاج معرفتها الكاملة لزمان طويل.
أن ما يؤكدونه لنا من صعوبة تعلم اللغة العربية الفصحى هو حقيقة يصل إليها كل منا بنفسه بعد متاعب كثيرة يتحملها، ولكن هذا التأكيد لا يقلل في أعيننا الفائدة التي نتواخها في دراستنا اللغة العامية. لقد تبين لي أكثر من مرة أن كثيراً من الشرقيين، المتعلمين منهم، يتساءلون عن هذه الفائدة المتوخاة ويشكون في صحتها ولذلك فقد رأيت من المفيد أن ألخص في بضع صفحات من الثقافة الأسباب التي تدعونا للمثابرة على هذا النوع من الدراسة التي صغر شأنها في أعينهم.
أن أول سبب من أسباب هذه الدراسة وأبسطها هي الفائدة العلمية. ورب قائل بأن اللغة العامية جميعها اشتقت ومسخت عن اللغة الفصحى وحري بالأوربي أن يتعلم اللغة الفصحى وحدها فلا يحتاج لغيرها من لغات عامية مختلفة وبذلك يتسنى له التكلم في اللغة العربية وتفهمها في جميع الأقطار العربية. على أن المتعلمين من الشرقيين الذين يؤيدون هذا الرأي، يقولون ذلك لأنهم يتكلمون لغتهم وهم يستطيعون بسائق غرائزهم أن يفهموا ما يردون قوله لمحدثيهم من مواطنيهم من أي طبقة كانوا ولعلهم لا يعرفون مبلغ ما يحتاجه الغريب عنهم، من المعرفة الخاصة والتمرين والممارسة الطويلة لكي يتمكن من محادثة فرد من أفراد الطبقة العامية.
يروى أن (هارتفيك ديرنبوغ) أحد الأساتذة القدماء في باريز وهو نحوي نشر الكتاب لسيبويه، وقد توفاه الله منذ زمن بعيد، وسل إلى المغرب وأراد أن يستأجر حماراً يركبه
إلى أحدى الجهات فطلب ما يبتغي بقوله: أريد حماراً دون أن يهمل حركة من حركات هذه الجملة، فلم يفهم أحد ممن كانوا حوله، ولقد كان عجبه عظيماً حين علن بأن جملة أريد حماراً، التي يكتبها بهذا الشكل، يجب أن يعبر عنها في المغرب بجملة نحبّْ دابّْ.
أن هذا السبب العملي وهو أول ما يخطر للذهن، ليس السبب الأهم. إذا اهتم المستشرقون بدراسة اللغة العامية فذلك لأن في هذه الدراسة فائدة علمية كبرى. ففي معرفة اللغة العامية فذلك ما يعين على التحدث إلى أفراد الشعب والاختلاط بهم وفي هذا ما يساعد الباحث على الوصول إلى ما يتطلبه من المعلومات من منابعها الأصلية فيما يتعلق بمظاهر الحياة المادية التي يحياها هؤلاء الناس الذين يتصدى لدرس عاداتهم وما احتفظوا به من تقاليدهم القديمة وما هم عليه من الأوضاع الاجتماعية والفردية، وهو بذلك لا يتوصل لمعرفة ما يود الإطلاع عليه فحسب، بل يلقى كثيراً من المواد التي يعتدُّ بها العلم ويقابلها مع غيرها من أوضاع اجتماعية جرت عليها الناس في بلاد أخرى من بلاد العالم مما يدخل في اختصاص علوم كثيرة منها علم طبائع الشعوب اتنوغرافيا وعلم الاجتماع (سوسيولوجيا) وعلم التقاليد والعادات (فولكلور) هذا وإن في دراسة اللغة العامية خدمات جلى لدرس الحضارة العربية، لأن لهذه الدراسة شأناً كبيراً وفائدة عظيمة في فقه اللغة (فيلولوجيا) والتاريخ وتاريخ الآداب.
أولاً: فائدتها في فقه اللغة، وعلى الأخص في وصف مفردات اللغة (ليكسيكوغرافيا): لا يمكن وضع معجم عربي كامل إلا بعد درس جميع اللغات العربية العامية، فمؤلفو المعاجم العربية القديمة الذين جمعوا باعتناء حتى حتى ما سمع من لغة الصحراء الشعرية، أهملوا أكثر الكلمات المألوفة لدى سكان المدن وتعابيرهم الفنية، وكثيراً يكون فيما كتبه كتاب القرون الوسطى، ولاسيما المؤرخون والجغرافيون منهم، كلمات وتعابير خاصة بالصناعة والهندسة والألبسة والطبخ والتجارة والملاحة لا يمكن العثور على معانيها في أكمل القواميس العربية وأكبرها، ولكن كثيراً ما تكون هذه الكلمات باقية في لغة من اللغات العامية التي كانت السبب في حفظها وعدم ضياعها.
ثانياً: فائدتها في التاريخ: إن في المقابلة بين لغات عامية مختلفة يتكلمها سكان مناطق مختلفة في بلاد واحدة أو في بلاد متعددة، ما يمكن معه الوصول إلى نتائج مفيدة في درس
الجماعات التي تتكلم هذه اللغات ودرس هجرتها ومواطنها وما قام بينها من صلات اجتماعية واقتصادية، فدرس العربية العامية المحكية في أواسط إفريقيا مثلاً يظهر، إذا جرى فيه التتبع والاستقراء جرياً أصولياً، كثيراً من شؤون المتكلمين بهذه اللغة وشؤون مواطنهم والبلاد التي جاءوا منها، وكذلك فإن في درس ما تركته اللغة التركية من آثار كثيرة في اللغة العربية العامية في سوريا ما يظهر شيئاً كثيراً من التأثير الذي خلفه الأتراك في الحياة السورية وهو تأثير عظمت قيمته المادية والإدارية وصغرت الوجهة الفكرية فيه.
ثالثاً: فائدتها في تاريخ الآداب: إن دراسة اللغة العامية تساعد على جمع وتحليل مؤلفات الأدب العامي ونعني بالمؤلفات هنا الحكايات والأغاني والنكات والأمثال العامية التي لا يمكن العثور عليها ف طيات الكتب ولكن روايتها وتداولها بين الناس يجعلها قريبة من الثبات في شكلها مما يمكن أن نسميها معه مؤلفات أدبية، على أن أدب الخاصة يعتمد على أدب العامة، شعر أو لم يشعر، فأسمى مؤلفات الأدب الغربي وأشهرها كالأوديسه ومكبث وفاوست مدينة بأصولها إلى الخرافات العامية. والأدب العربي مستمد من حياة الأعراب اليومية قبل الإسلام ومن المعلوم أيضاً بأن أسمى أنواع الأدب العربي وأرفعها هو نوع المقامات الذي يرجع بأصوله لحكايات كانت تقصها طائفة من الوعاظ ضربوا في مجاهل الأرض على عدد من أفراد الشعب يلتفون حولهم في زاوية من زوايا الطرقات. فكيف يمكن بعد ذلك أن يدرس بصورة قيّمة أدب علمي له ما له من صلات كثيرة بالأدب العامي إذا أهمل تماماً درس هذا الأدب العامي؟
وكثيراً ما يكون في الأدب العامي ذي الطابع المحلي الخاص من العبقريات ما ربما لا يظهر في الأدب العلمي الذي قل أن تبرز الطبيعة الخاصة المحلية فيه، ففي فصول قره كوز مثلاً يظهر الفرق جلياًّ بين المزاج التركي والمزاج العربي فلقد نقل السوريون هذه الفصول عن الترك وبنقلها حلت مظاهر الطبيعة السورية محل مظاهر الطبية التركية، ففي الأغاني والأناشيد التي تتخلل هذه الفصول مثلاً قامت العاطفة العربية الحزينة الوالهة مقام العاطفة التركية الهفافة.
هذه هي بعض الخدم التي يمكن أن يؤديها إلى العلم درس اللغة العامية: وهي فوائد لا تدعو لأهتمام المستشرقين فقط بل تجدر باهتمام أهل الشرق أنفسهم أيضاً ونحن على ثقة بأن هذا الأهتمام سوف يعظم مع الأيام حتى يبلغ ما هو جدير به.
لا نكران بأن أمم الشرق ما برحت تندرج في نبذ خرافات كثيرة لا تتلائم مع روح الإسلام، وإننا لا نزعم بأن هذه الخرافات ما يؤسف على نبذه وإهماله، ولكن لا محيد على القول بأن فيها ما قد يصح أن يتألف منه بعض التراث الوطني للشعوب الشرقية، وإن هذه الشعوب التي تشعر الآن أكثر من قبل بنزعتها الوطنية وحاجتها للاحتفاظ بذلك التراث الوطني، لا يمكنها أن تهمل ما تتألف منه مظاهر الأنماط التي جرى عليها في كل يوم أجدادنا من قبل، على أن هذه الحياة التي قضاها الأجداد بالأمس وما برحت ماثلة أمام أعيننا بآثارها، لن تلبث أن تصبح من ذكريات الغد البعيد ولذلك لم يبق من الوقت إلا ما يكفينا أن نجمع شواهدها وإعلامها للأجيال القادمة قبل أن تتوارى في طيات العدم، وتصبح نسياً منسياً.
هذا ما عملت عليه منذ زمن قديم الأمم الأوربية بشأن مظاهر حياتها الشعبية، وما شرع به أخيراً بعض الأمم الشرقية كاليابان وتركيا، فهي تجمع في متاحف خاصة اتنوغرافيا، طائفة من الألبسة والحوائج التي يستعملها الشعب في قضاء حاجاته، وتحتفظ بمجموعات من اسطوانات الحاكي في مختلف الأغاني العامية، عدا ما تسجله وتطبعه من الأمثال والقصص والنكات والشواهد العامية.
على أن اللغة العامية هي أعظم مظهر من مظاهر الحياة الشعبية، فباللغة العامية نستطيع أن نعرف ونحفظ أسماء الحوائج التي يستعملها أجدادنا، والأمثال التي يضربونها فيجمعون فيها الكثير من حكمهم، والخرافات التي يعتقون بها فتنبئ عن وجهة نظر حياتهم، يزاد على كل ذلك بأن اللغة العامية من النكات والهزل والتنادر ما لا يمكن أن نجد ما يعادله رشاقة في اللغة الفصحى وهذا ما يدعو الجرائد الهزلية لتفضيل اللغة العامية على الفصحى في أكثر ما تكتبه، على أن كتاب العربية جميعاً، رغم من شذوا، لا يريدون عن اللغة العربية الفصحى بديلاً وأن لديهم لذلك أسباباً مصيبة جداً يضيق بنا المجال أن يأتي على بيانها هنا غير أنه لا يمكن حتى لأشدهم محافظة على هذا الرأي وتمسكاً به، أن يؤيدوا بأن درس اللغة العامية مما لا فائدة فيه.
لقد أصبح اليوم من المتفق عليه بين الناس بأن اللغتين الفصحى والعامية في جميع الأقطار العربية ما برحتا تتقاربان الواحدة من الأخرى بصورة مستمرة وإن اللغات العامية ما فتأت تغني بمفردات وتراكيب اللغة الفصحى التي ما زالت تسهل وتعم بدون أن تفقد شيئاً من صحتها على أن هذا التطور الطبيعي يمكن أن يضاف إليه مساعي كثيرة. ثم أو ليس في المقابلة أو الموازنة بين اللغات العامية المختلفة في العالم العربي ما يمكن معه أن نعرف الصفات العامة الجامعة لهذه اللغات العامية وخصائص كل منها، وأن نعرف أيضاً ما هي الكلمات الأخرى التي يفهمها أناس دون آخرين؟ أليس في ذلك ما يساعد أيضاً على العمل في سبيل جعل اللغة العربية الفصحى لغة عامةً لجميع العرب وعلى متناول جميع من يتكلمون بتلك اللغات المحلية المختلفة؟
يظهر لنا وقد أوردنا ما أوردناه من الأسباب أن الشرقيين سيهتمون في الآتي بلغاتهم المحلية العامة أكثر من اهتمامهم بها اليوم، وسيأتي زمن يقوم فيه كل قطر من الأقطار العربية علماء منهم يأخذون على أنفسهم درس لهجات أقطارهم درساً أصولياً مما لا يبقى معه حاجة لدرس المستشرقين وتتبعهم بهذا الشأن لأن هؤلاء العلماء الوطنيين سيضيفون إلى أصول التحليل والنقد معرفتهم العميقة في لغاتهم التي لا يستطيع أن يساويهم فيها من ليس منهم، وإن في درس الأستاذ فغالي، وعلى الأخص فيما يتعلق في مؤلفه في قواعد اللغة العربية اللبنانية وردها إلى أصول الفصحى، ما يظهر النتائج الباهرة التي يمكن أن يصل إليها البحاثة الشرقي في أتباعه في درس لغته سنن الأصول العلمية الحديثة.
ومع هذا فلعل في المعونة التي يؤدي واجبها المستشرقون بعض الفائدة للشرقيين أنفسهم، إذا أن في درس جميع اللغات نصيباً من العمل يجيد فيه الغريب أكثر من أبناء اللغة أنفسهم، وهذا النصيب هو تحليل اللغة من الوجهة الروحية النفسية. إن قواعد اللغة الصرفية والنحوية التي وضعها أحد أبناء هذه اللغة لمن يتكلمونها لا تعصم إلا من الأخطاء قليلة الشأن إذ لا حاجة لذكر أشياء نمت من العقل فعرفها أبناء هذه اللغة منذ مولدهم، أما الغريب عن اللغة فأن لديهم من الدواعي ما يحدوه لتفهم فكرة اللغة وروحها والعمل على أفهامها ووصفها للغرباء من وضع أحد الغرباء. إن أجمل مؤلفي تاريخي في قواعد اللغة الفرنسية هو من وضع العالم نيروب الدانيمركي. وإن جيسبرسن من علماء الدانيمرك أيضاً ما برح مستمراً في نشر مؤلف ضخم في قواعد اللغة الانكليزية الحديثة وهو يعد اليوم من أحسن ما ألف من نوعه.
وبعد هذا فليس للمستشرقين إلا أن يثابروا على دراستهم اللغات العامية فيعدون ما يلزم لمن سيأخذون على أنفسهم دراستها وحري بهم أن يستمروا، بما عرفوا به من صبر وتواضع، على عملهم الهادئ الذي لا يقل فائدة عن غيره من الأعمال ذات الضوضاء في سبيل التفاهم بين أبناء البشر.
إدمون صوسه
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقكم يعكس شخصيتكم ، دعونا نتمتع باللباقة في الكلام.