الفصل الثاني
شروط التمكين للامة من خلال القرآن والسنة
المبحث الأول :شروط التمكين للأمة من خلال القرآن الكريم:
الدلالة اللغوية لكلمة "التمكين" :
التمكين مصدر
للفعل مكَّنَ، وهو من مزيد ثلاثي، وقد وردت هذه الكلمة في كتب اللغة ولم تخرج أن
أصل وقعها، قال الجوهري (مكنه الله من الشيء، وأمكنه منه بمعنى: واستمكن الرجل من
الشيء وتمكن منه بمعنى، وفلان لا يمكنه النهوض أي لا يقدر عليه).
والمَكنُ بيض الضب،
قال الكسائي : (أمكنت الضبة جمعت بيضها في بطنها)[1]
وقال صاحب اللسان:
(وقد مكنت الضبة وهي مكون وأمكنت وهي ممكن إذا جمعت البيض في جوفها، وفي حديث أبي
سعيد: "لقد كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي لأحدنا الضبة
المكون أحب إليه من أن يهدي إليه دجاجة سمينة " المكون التي جمعت المكن وهو
بيضها.
والمَكِنة التمكن،
تقول العرب: إن بني فلان لذوا مَكِنَة من السلطان أي تمكن.
وقال ابن سيده :
(والمكانة المنزلة عند الملك : والجمع مكانات ولا يجمع جمع تكسير)[2]
قال صاحب المفردات
عند سلمة كلمة "مكن": ( المكان عند أهل اللغة المكان الحاوي للشيء).
ويقال مكنته ومكنت
له نتمكن، قال تعالى: (ولقد مكناكم في الأرض)[3]،
وقال: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)[4]
ويقال مكان
ومكانة، قال تعالى: (اعملوا على مكانتكم)[5]
وقوله : (ذي قوة
عند ذي العرش مكين)[6]
أي متمكن ذي قدرة
ومنزلة[7]
ومما سبق نخلص إلى
أن مادة الكلمة قد استعملت بمعانٍ عديدة ومتقاربة لا تخرج عن اصل الإستعمال فقد
استعملت بمعنى القدرة على الشيء والظفر به، وكذلك بمعنى السلطان والقدرة والمنزلة.
تعريف التمكين اصطلاحاً :
عرف العلماء
التمكين من خلال تفسيرهم لكلمة (مكناهم)[8]
في الآية الكريمة
من قوله تعالى: (الذين مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف، ونهوا عن المنكر لله عاقبة الأمور)[9]
فقد فسر العلماء
التمكين بعدة تفسيرات منها:
- التمكين: السلطة ونفاذ الأمر على الخلق[10]
- مكناهم: قدرناهم وجعلنا لهم التصرف والإستيلاء في الأرض وأقطارها المعدة للطاعات والعبادات.[11]
- مكناهم نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا في البلاد.[12]
ويتضح مما سبق في
التعريف الاصطلاحي للتمكين، أن الله تعالى قد أخد عهداً على عباده، أن يلتزموا
شرعه أمراً ونهياً عند تمكينهم في الأرض.
التمكين في اصطلاح القرآن الكريم:
وردت كلمة
((التمكين)) في القرآن الكريم باشتقاقها ثماني عشرة مرة ، ولم يحدد لها القرآن اصطلاحاً
خاصاً بل استعملها في المعاني التي ذكرت معاجم اللغة، وباستقراء الآيات التي وردت
فيها اشتقاقات الكلمة يتبين لنا أن القرآن استعمل الكلمة على سبعة معانٍ وهي
كالآتي:
o
أولاً: التمكين بمعنى الملك والسلطان.
قال تعالى في شأن
ذي القرنين: (إنا مكناله في الأرض)[13]،
قال ابن كثير رحمه الله: (أي أعطيناه ملكاً عظيماً مُمَكَّناً فيه من جميع ما يعطي
الملوك من التمكين والجنود)[14]،
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض)[15]،
قال الشيخ عبد الرحمان السعدي في تفسيره "أي ملكناهم إياها وجعلناهم
المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم ولا معارض)[16]
o
ثانياً: التمكين بمعنى المنزلة عند الملك.
قال تعالى في شأن
يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام: (وقال الملك إيتوني به استخلصه
لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين)[17]
وقال تعالى في شأن
جبريل عليه السلام: (ذي قوة عند ذي العرش مكين)[18]
وكذلك قال تعالى
في شأن يوسف عليه السلام: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء)[19]
ويفسر هذا التمكين
على أنه تصيب من الملك ومنزلة ذات قدرة عند الملك، قوله تعالى في أواخر سورة يوسف:
(رب قد آتيتني من الملك)[20]
o
ثالثاً: التمكين بمعنى التهيئة.
قال تعالى: (أو لم
نمكن لهم حرما آمنا تُجبَى إليه ثمراتُ كل شيء)[21]،
أي ألم نجعل لكم حرماً ذا أمن[22]،
وقال تعالى في شأن يوسف عليه السلام: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي
مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل
الأحاديث)[23]، أي
جعلنا هذا مقدمة وتهيئة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق[24].
o
رابعاً: التمكين في نعم الدنيا ومعايشها.
قال تعالى : (ألم
يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء
عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم
قرنا آخرين)[25].
وقال تعالى: (ولقد
مكناهم فيما إن مكناهم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة)[26]،
قال ابن كثير رحمه الله: " ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال
والأولاد وأعطيناهم منها ما لم نعطيكم مثله ولا قريباً منه"[27]
o
خامسا: التمكين للدين.
وهو يعني القدرة
على مزاولة شعائره في أمن وإظهارها دون
منازع أو مشوش، قال تعالى في سورة النور: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكن لهم دينهم الذي
ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً)[28].
o
سادساً: التمكين بمعنى الظفر.
قال تعالى: وإن
يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم)[29]،
فأمكن بمعنى أظفر واقدر[30].
o
سابعاً: التمكين بمعنى الثبوت والإستقرار.
قال تعالى: (الم
نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين).[31]
وعد القرآن بالتمكين بوعد الحق:
الوعد بالتمكين
لدعوات المرسلين وأتباعهم من المؤمنين استفاضت به آيات التنزيل وكادت لا تذكر
تحدياً بين الحق والباطل، إلا وتعقبت ذلك الحال بالطمأنينة بأن العاقبة للمتقين
والنصر للمرسلين والغلبة للجند المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: (ولقد كتبنا في
الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في ذلك لبلاغاً لقوم
عابدين)[32].
قال أكثر أهل
التفسير: أي كتب الله ذلك عنده في اللوح المحفوظ ، وهو الذكر وجزم به سبحانه بعد
ذلك في "الزبور"، وهو اسم جنس للكتاب المنزل على الأنبياء من التوراة
والإنجيل والقرآن وما هو من جنسها،[33]
فالوعد إذن بالتمكين مؤكد غاية التوكيد مجزوم به من الله سبحانه وتعالى في أم
الكتاب عنده وفي سائر كتبه المنزلة، تكاثرت الىيات وتظاهرت على توكيده كذلك في
القرآن الكريم، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون
وإن جندنا لهم الغالبون)[34].
وقال سبحانه
وتعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد).[35]
وقال سبحانه: (إن الذين
يحادون الله ورسوله أولائك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)[36].
وقال سبحانه:
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنهم من ارضنا أو لتعودون في ملتنا فأوحى إليهم ربك
لنهلكن الظالمين ولنسكنكم الأرض بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)[37].
والوعد بالتمكين
يأتي أحياناً في الذكر الحكيم مجزوماً، ولكن يذكر الرسل فقط، وأحيانا يذكر الرسل
والمؤمنين في سياق بعض آيات الوعد بالتمكين أو النصر وتارة ثالثة يفرد ذكر
المؤمنين فقط في سياق الآيات، ولا غشكال في ذلك أو عظيم تباين فالوعد للرسل، ينسحب
كذلك على المؤمنين باعتبار أن الرسل لا يمكن أن يجاهدوا أو يُمَكَّنوا إلا في
اتباع من المؤمنين وكذلك الوعد للمؤمنين ينسحب على الرسل باعتبارهم أهل الإيمان.
وعد الرسل بالتمكين :
من خلال دراسة
آيات النصر والتمكين في القرآن الكريم نلاحظ مجيء الوعد بالنصر والغلبة والعاقبة
والتمكين المذكور فيه الرسل أكثر وآكد بمؤكدات لفظية ظاهرة ومعنوية من الوعد
بالتمكين والنصر المذكور فيه المؤمنون فقط، ويرجع ذلك إلى أن دعوات الرسل لا يمكن
أن يتغلب عليها احد البتة بل النصر مجزوم به له ولأتباعه وهم الغالبون القاهرون،
قال تعالى:(كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)[38].
وهنا أكد الله
سبحانه وتعالى غلبة الرسل بمؤكد ما بعده مؤكد فقد عطف الرسل على ذاته العلية
"أنا" فتأكدت الغلبة كل التأكيد فالله معهم وهو غالب لا يغلب سبحانه،
والتحقيق أن الأنبياء الذين ذكر القرآن أن أقوامهم قتلوهم أنهم لم يكونوا في قتال.[39]
أما من قاتل منهم
فإنه لا يتصور بحال ولا يليق بحال العزيز القهار أن يرسل رسولاً ويأمر بقتال ثم
يقتل وهو لم ير ما وعد من نصر والآية المذكورة شاهدة في هذا المعنى بذلك.
ومما يلحظ كذلك أن
الآيات التي جاء فيها الوعد بالتمكين ونحوه وذكر لفظ الرسل فيها فهي في الغالب
تجزم بالوعد دون تعليقه على أي يعمل أو شرط أو تقديم يتقدم به الرسل لينالوا الوعد
ويتحقق لهم، بينما الآيات التي يذكر فيها الوعد بالتمكين ونحوه للمؤمنين يعلق
الوعد بالتمكين أو النصر أو نحوهما بأعمال وأحوال إذا هي تحققت تحقق لهم متعلقاً
من الموعود به من النصر والتمكين، وذلك أن الرسل على صلة مباشرة بالوحي فلا حاجة
لتنبيههم لحالة أو صفة ليتحولوا بها وهم قد تحولوا بالصفات المؤهلة لنيلهم النصر
فهم استحقوا أن يكونوا موضع رسالات الله سبحانه وتعالى: وكذلك لصلتهم المباشرة
بالوحي وعناية الله ورعايته لدعوتهم لا يمكن أن يخطؤوا الطريق أو ينسوا عوامل
النصر وشروط التمكين.
وعد المؤمنين بالتمكين:
أما أهل الإيمان من
بعد الرسل فإنهم لا يلبثوا بين فينة وأخرى حتى يقصروا عن أسباب النصر وعوامل
التمكين، أو يبحثون عنها أحياناً ويخطؤون الطريق إليها أحياناً، أو تفقد منهم صفات
وأحوال حتمية للظفر بالتمكين.
فالوعد بالتمكين
للمؤمنين فقد جاء معلقاً بصفات وأعمال وشروط يجب أن يحققها أهل الإيمان ليتحقق لهم
وعد النصر والتمكين فآيات القرآن في ذلك فهي ظاهرة الدلالة واضحة في ترتيب الوعد
لهموتعلقه بأمور عدة بخلاف ما سبق سرده من آيات ذكر فيها الرسل وذكر فيها الوعد
لهم بالنصر والتمكين دون تعليق بشيء.
قال سبحانه
وتعالى: (وعد الله الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد بعد
خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولائك هم الفاسقون)[40]
فقد جاء الوعد بالتمكين في الآية متعلقاً بأربعة أمور:
أ-وجود الجماعة المؤمنة وتحقق الإيمان فيها
ب-عمل الصالحات : من القيام بشرائع الدين
وتنفيذ أوامر الله عملا وليس ادعاءً فقط
ت-التزام نهج الصحابة لقوله: ((منكم)) فالخطاب
لهم وينسحب على من نهج نهجهم.
ث-انتقاء الشرك في العبادة (يعبدونني لا يشركون
بي شيئاً)
قال سبحانه
وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)[41]،
وهنا علق الله سبحانه وتعالى نصرة المؤمنين بقيامهم نصرة دينه سبحانه.
مراتب التمكين في القرآن الكريم:
من البديهي أن
التمكين لا يمكن أن يتم في لحظة من الزمن بل له مراحل يتدرج فيها مرحلة مرحلة،
ولكون هذه المراحل ليست على درجة واحدةبل كل مرحلة يقوى فيها التمكين ويشتد عوده
أكثر من المرحلة السابقة ومراتب التمكين في القرآن الكريم:
▓
المرتبة الأولى : السلامة من الخسران.
هذه المرتبة هي
الدرجة الأولى في سلم مراتب التمكين للفئة أو الجماعة المؤمنة وهي لازمة حتمية
لايمكن أن تبدأ للتمكين بداية دون البداية بها ولقد بينها الله جل وعلا في كتابه
وجزم بها وأقسم عليها.
فقال سبحانه:
(والعصر والإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا
بالصبر)[42]،
وهذه السورة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:"لو تدبر الناس هذه السورة
لوسعتهم"[43]، وهي
بحق إذ لا ينبغي لعاقل أن يسأل عن وسائل التمكين قبل أن يرفع عن نفسه ومن معه دخائل
الخسارة.
▓
المرتبة الثانية: التأييد.
التأييد ومنه
التقوية[44]،
ومنه ما وقع لنبي الله عيسى، قال تعالى: (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه
بروح القدس)[45]، حيث
أيد به شاعر رسول الله صلى الله عليه سلم حسان ابن ثابت فقال عليه الصلاة والسلام:
(إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)[46]
فالتأييد مرحلة من
مراحل التمكين حيث إنه لا يمكن أن يتم التمكين بدون تأييد لعظم شأن هذه المرتبة.
▓
المرتبة الثالثة: الظهور.
وهو القوة مع
البروز، قال الله تعالى في شأن الحواريين: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا
ظاهرين).
وهذه المرتبة نتاج
مرتبة التأييد وحصيلتها، هي مرتبة من التمكين بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
(لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة).
قائمة المصادر والمراجع :
فهرس سلسلة أسباب النصر والتمكين للأمة الإسلامية لقراءة المزيد :
- الجزء الأول : مقدمة و تمهيد لسلسلة النصر والتمكين للأمة الإسلامية
- الجزء الثاني : أسباب النصر والتمكين في القرآن الكريم
- الجزء الثالث : أسباب النصر والتمكين في السنة النبوية
- الجزء الرابع : شروط النصر والتمكين في القرآن الكريم
- الجزء الخامس : شروط النصر والتمكين في السنة النبوية مع الخاتمة ومراجع ومصادر السلسلة (النهاية).
تعليقات
إرسال تعليق
تعليقكم يعكس شخصيتكم ، دعونا نتمتع باللباقة في الكلام.